السبت، 3 أغسطس 2019

هل كان ابن الجوزي ليبرالياً ؟؟

ولد عبدالرحمن بن الجوزي عام 510 هـ , وهو عالم بحرٌ غزير العلم , ذو همةٍ عالية , ونفس تطمح للمعالي , ورؤية فريدة انفرد بها عن علماء عصره , وكان غزير الإنتاج جيّده , وقيل أنه ألف 250 كتاباً على ما ذكر الرواة عنه ,


ومن أشهر ما كتب ابن الجوزي رحمه الله كتابه الشهير " صيد الخاطر ".
هذا الكتاب يُـصنَّف ضمن " الأدب الديني " ؛ لأنّه يتضمن خواطر ابن الجوزي الدينية وصاغها بشكل أدبي وعظي مميز محبب إلى النفس .


قرأت هذا الكتاب -كعادتي- مع الكتب الدينية التي أحبها كثيراً وأتلذذ بمطالعتها وقراءتها والنظر فيها مراراً وتكراراَ.

كتب ابن الجوزي عدة مقاطع تدل على نفسٍ متحررة من هوى التعصب والتقليد تعمَّقت نفس المؤلف فيها , واستغربتُ أكثر كيف كانت هذه الرؤية الصحيحة قديمة غائبة عنّا؟ , ولدينا من أمثالها الكثير في كتب الأئمة والسلف -رحمهم الله- !.

فتأمل معي هذه النصوص وتدبرها بفكر عميق , ففي عنوان : (موت القلوب) ينتقد ابن الجوزي أوضاع الناس في ذلك الزمان فيقول :"... وإني تدبرت أحوال أكثر العلماء والمتزهدين فرأيتهم في عقوبات لا يحسون بها ومعظمها من قبل طلبهم للرياسة . فالعالم منهم يغضب إن رُدَّ عليه خطؤه, والواعظ متصنع بوعظه , والمتزهِّد منافق أو مراءٍ .فأول عقوباتهم إعراضهم عن الحق شغلاً بالخلْق , ومن خفيّ عقوباتهم سلب حلاوة المناجاة ولذة التعبد " (خاطرة رقم6) . انتهى كلامه



وبمواصلة تتبع نصوص ابن الجوزي " المتحررة من التعصب وهوى التقليد " في كتابه الرائع صيد الخاطر , فينتقد العلماء صراحةً ويعنْون أحد الخواطر بعنوان ( علماء الدنيا وعلماء الآخرة ) و يكتب قائلاً : " تأملت التحاسد بين العلماء , فرأيت منشأهُ من حب الدنيا , فإنّ علماء الآخرة يتوادون ولايتحاسدون , كما قال عز وجل : "ولايجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا " [....] والأمر الفارق بين الفئتين : أن علماء الدنيا ينظرون إلى الرياسة فيها , ويحبون كثرة الجمع والثناء , وعلماء الآخرة بمعزل من إيثار ذلك , وقد كانوا يتخوفونه , ويرحمون من بلى به .... "( خاطرة رقم 11) . انتهى كلامه.


ويذم في خاطرة تحت عنوان ( من خلط الزهّاد ) الرؤية الخاطئة المتشددة بالتسامح , والمتسامحة مع التشدد فيقول : "مازال جماعة من الزهّاد يزرون [يلومون] على كثير من العلماء إذا انبسطوا في مباحات , والذي يحملهم على هذا الجهل , فلو كان عندهم فضل علم ما عابوهم, وهذا لأن الطباع لا تتساوى , فرب شخص يصلح على خشونة العيش , وآخر لا يصلح على ذلك, ولا يجوز لأحدٍ أن يحمل غيره على ما يطيقه هو ,[...] , فلجهل المتزهدين بالعلم أنكروا مالم يعلموا , وظنوا أن المراد إتعاب الأبدان , وإنضاء الرواحل , وما علموا أن الخوف المضني يحتاج إلى راحة مقاومة , كما قال القائل : روحوا القلوب تعي الذكر ." (خاطرة رقم57)



وأما الزهّاد والصوفية فأخذوا الجهد الأكبر من نقد ابن الجوزي , فكتب فيهم أكثر من 5 خواطر يذمّهم فيها ويحذر الناس من شرّهم وتلبيسهم على المسلمين.
حيث أورد في خاطرةٍ بعنوان : ( حماقة الصوفية في كراهية الدنيا )

ذامّاً المقلدين والسائرين خلف الأسماء دون الرجوع لصحيح القرآن والسنة

" ... فجاء أقوام فأظهروا التزهّد , وابتكروا طريقة زيّنها لهم الهوى , ثمّ تطلبوا لها الدليل ,[...], ثم انقسموا فمنهم متصنّع في الظاهر , ليث الشرى في الباطن , يتناول خلواته الشهوات , ويعكف على اللذات , ويرى الناس بزيه أنّه متصوف متزهد, وما تزهد إلاّ القميص , وإذا نظر إلى أحواله فعنده كبر فرعون , ومنهم سليم الباطن إلا أنّه بالشرع جاهل , ومنهم من تصدر وصنف فاقتدى به الجاهلون في هذه الطريقة , وكانوا كعمْيٍ اتبعوا أعمى , ولو أنّهم تلمحوا للأمر الأول الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لما زاغوا. ولقد كان جماعةٌ من المحققين لا يبالون بمعظّمٍ في النفوس إذا حاد عن الشريعة , بل يوسعونه لوماً [...] واعلم أن المحقق لا يهوله اسم معظّمٍ , [...] ولعمري أنه قد وقر في النفوس تعظيم أقوام , فإذا نُقل عنهم شيء فسمعه جاهل بالشرع قبله لتعظيمهم في نفسه ,[...] وقد نُقل عن قدماء هذه الأمة بدايات هذا التفريط , وكان سببه من وجهين : أحدهما : الجهل بالعلم , والثاني : قرب العهد بالرهبانية ! ."


ويجزم ابن الجوزي بنفس هذه الخاطرة بشكل قاطع حاسم -قلّما نجد له مثيلاً بواقعنا المعاصر-
" ... واسمع مني بلا محاباة , لا تحتجّن عليَّ بأسماء الرجال , فتقول قال بشر وقال إبراهيم بن أدهم ,[...], على أن لأفعال أولئك وجوهاً نحملها عليها بحسن الظن. ولقد ذكرت بعض مشايخنا ما يروى عن جماعة من السادات, أنهم دفنوا كتبهم , فقلت له : ما وجه هذا ؟ فقال : أحسن ما نقول أن نسكت, يشير إلى جهل فاعله ..." . (خاطرة رقم 19) .


ويطول بنا الحديث في تتبع نصوص الكتاب المميز . إنَّ كتاب ابن الجوزي ( صيد الخاطر ) يحتاج لذلك القارئ المتأمل نصوص ابن الجوزي وملاحظة الروح النقدية الطاغية في نصوصه تجاه مايفعله الوعاظ والزهاد ومن تلبس بلبوس الدين ابتغاء الدنيا .

وأعجب من التأصيل العلمي والشرعي لحرية الفكر , وحرية الرأي , وذم الهوى والتقليد , بل وإعلاءه الصريح قيمة العقل و ذم الجهل والشكليات التي لاتسمن ولا تغني من جوع.

يمثّل ابن الجوزي العالم الربّاني المفيد لدينه وأمته , نبذ الهوى والتقليد والتعصب , وسخر إنتاجه الغزير في خدمة الدين الحنيف , فحفظه التاريخ وسطّره لأجيالٍ أتت من بعده , تلتمس في رؤيته الصحيحة النقية التي تنهل من عذب الكتاب والسنة مخرجاً لكل تعصب وتفسيق وتكفير ابتليت فيه بلادنا الإسلامية.
وتوفي ابن الجوزي رحمه الله سنة 597 هـ .


**
خاتمة **

ذم الهوى والتقليد والتعصب وحرية الفكر بنى عليها ابن الجوزي كتابه الرائع "صيد الخاطر ". أتمنى يتوفر بيد كل قارئ منا , فهو إضافة مميزة تستحق القراءة والاقتناء .







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق